لماذا الكاف والشين متباعدان
لماذا الكاف والشين متباعدان
السؤال:
لماذا حرفا الكافِ والشِّينِ متباعدانِ معَ أنَّهما مِن مخرَجينِ خاصَّينِ متتاليَينِ ولا يَفصِل بينهما مخرَج؟
الجواب:
قبلَ الإجابةِ على السؤالِ لا بُدَّ من مقدِّمةٍ بسيطةٍ ومهمَّةٍ:
القواعدُ النظريَّةُ لعلمِ التَّجويدِ والتي تحويها كُتبُ التجويدِ التي بينَ أيدينَا تمَّ استنباطُها مِن التِّلاوةِ النَّبويَّةِ التي نقلَها لنا أئمَّةُ الأداءِ بالتَّواترِ على مَرِّ العصور، وبالتالي فإنَّ القواعدَ النَّظريَّةَ تَتبعُ الأداءَ العمليَّ لا العكس. وهذا يعني أنَّه لا يجوزُ لقارئٍ أن يطبِّق حكمًا تجويديًّا معيًّنًا وجدَه في أحدِ الكتُبِ ما لم يكن أداءُ هذا الحُكمِ منقولًا عن أئمَّةِ القراءةِ والتَّجويدِ ، فهؤلاءِ الأئمَّةُ همُ الأصلُ في ضبطِ الأداءِ القرآني. وحتى يكونَ الأداءُ مقبولًا لا بُدَّ أن يكونَ مدوَّنًا في الكتبِ واتفقَ أئمَّةُ الأداءِ على صحَّتِه.
الآن لو رَجَعنا إلى حرفَيِ (الكافِ والشِّين):
بناءً على التَّقسيماتِ النَّظريَّةِ ينبغي أن يكونا متقاربَين لأنَّهما مِن مخرجَين متتاليَين ولا فاصلَ بينهما. حيثُ نجدُ في الكتبِ أنَّ مخرجَ الكافِ مِن أقصى اللِّسانِ ومخرجَ الشِّينِ مِن وسَطِ اللِّسان. لكنْ لو رَجعنا إلى الأداءِ العمليِّ الذي نقلَهُ أئمَّةُ القراءةِ فإنَّنا لن نجدَ أحدًا منهم أَدغمَ الكافَ في الشِّين أو أَدغمَ الشِّينَ في الكاف، بلِ الجميعُ متَّفقٌ على إظهارِ هذينِ الحرفين إذا التَقيا. وطالما أنَّ حكمَهما الإظهارُ فهذا يدُلُّ على تباعدِهما لأنَّ القاعدةَ تقول: قُربُ المخارجِ يوجبُ الإدغامَ، وبُعدُ المخارجِ يُوجبُ الإظهارَ ، وعدَمُ البُعدِ وعدَمُ القُربِ (أي التَّوسُّط) يُوجبُ الإخفاء.
فضلًا عن ذلكَ توجدُ قاعدةٌ أخرى تقول: الأصلُ في التقاءِ الحروفِ الإظهارُ، والعُدُولُ عنه إلى الإخفاءِ أو الإدغامِ أو القلبِ هو عُدُولٌ إلى الأسهل. وبالتَّالي لا يُسألُ لماذا أَظهرنا الشِّينَ عند الكافِ، أو لماذا أَظهرنا الكافَ عندَ الشِّينَ، والسَّببُ أنَّ الإظهارَ هو الأصل. وإنْ حصَلَ إدغامٌ بين حرفَينِ فعندها لنا أن نسألَ: لماذا أَدغمنا؟ فيكونُ الجوابُ: لأنَّ الإدغامَ أسهلُ مِن الإظهار. وبعدَها نبحثُ عن العلاقاتِ بين هذين الحرفَين هل هما متماثلانِ أم مُتجانسان أم متقارِبان.
الآن لو دقَّقنا في مخرجِ الكافِ والشِّينِ، هل فعلًا هما متقاربان؟
لو نظرنا إلى النَّاحيةِ العمليَّةِ سوفَ نكتشفُ مباشرةً أنَّهما متباعدان، ويُمكن إثباتُ ذلك بسهولةٍ عندما نَنطقُ الكافَ والشِّينَ متتاليَين هكذا: (أكْ) (أشْ) حيثُ سيتَّضحُ وبسهولةٍ كم هي بعيدةٌ المسافةُ بين هذين الحرفين. وسببُ ذلك أنَّ الكافَ يَخرجُ مِن أقصى اللِّسانِ معَ نقطةِ التقاءِ الحنكِ اللَّحميِّ معَ الحنكِ العظميِّ، بينما الجيمُ والشِّينُ والياءُ - غيرُ المدِّيَّةِ – تخرجُ من وسَط اللِّسانِ معَ وسَطِ الحنكِ الأعلى. لكنَّ منطقةَ وسَطِ اللِّسانِ هي منطقةٌ واسعةٌ يمكن أن نَقسمَها إلى قِسمَين؛ القِسمُ الأوَّل يَخرجُ منه الياءُ غيرُ المدِّيَّة وهو من وسَطِ الحنكِ الأعلى تمامًا، بينما الجيمُ والشِّينُ يخرُجانِ من منطقةٍ تُسمَّى مُقَدَّمَ الحنك.
وفي النَّتيجةِ صارَ لدينا عِدَّةُ نقاطٍ مختلفةٍ للتَّصادمِ تخرُج منها هذه الحروفُ بهذا التَّسلسل:
- النُّقطةُ الأولى هي للكاف: أقصى اللِّسانِ معَ نقطةِ التقاءِ الحنكِ اللَّحميِّ معَ الحنكِ العظمي.
- النُّقطةُ الثَّانيةُ هي للياءِ غيرِ المدِّيَّة: تمامًا من وسَطِ اللِّسانِ معَ وسَطِ الحنكِ الأعلى.
- النُّقطةُ الثَّالثةُ هي للشِّينِ والجيم: من وسَطِ اللِّسانِ معَ مُقَدَّمِ الحنك.
وبالتَّالي نكتشفُ أنَّ الكافَ والشِّينَ يَفصِلُ بينَهما الياءُ، وبالتَّالي فهُما ليسا متقارِبَين من النَّاحيةِ النَّظريَّةِ أيضًا.
وهذا مِصداقٌ لقولِ العلَّامةِ ابنِ عبدِ الرَّزاق في تذكِرَةِ القُرَّاء:
وَالْحَصْرُ تَقْرِيبٌ وَفِي الْحَقِيقَهْ
لِكُلِّ حَرْفٍ بُقْعَةٌ دَقِيقَهْ
إِذْ قَالَ جُمْهُورُ الْوَرَى مَا نَصُّهْ
لِكُلِّ حَرْفٍ مَخْرَجٌ يَخُصُّهْ
فعلماؤُنَا - جزاهُمُ اللهُ خيرًا - عندمَا جَعلوا الجيمَ والشِّينَ والياءَ غيرَ المدِّيَّةِ من مخرجٍ واحدٍ كانوا يقصِدون تقريبَ الفِكرةِ وتبسيطَها للنَّاسِ. ولكن في الحقيقةِ لكلِّ واحدٍ من هذهِ الحروفِ مخرجٌ خاصٌّ به يختلفُ عن الآخَر.
ممَّا سبَقَ يَتبيَّنُ لنا أنَّ الكافَ والشِّينَ حرفانِ متباعدانِ نظريًّا وعمليًّا وحكمُهما عند الِالتقاءِ الإظهارُ، ولم يَرِدْ عنِ العربِ إدغامُ أحدهما بالآخَر.